حفلة "رأس المتن" الخطابيّة

   أحيتها جمعيّة "النهضة الخيريّة النسائيّة" في القرية، في السادس من أيلول عام 1931، وفي قاعة فندق "عين العافية" ذات المياه المعدنيّة الصحيّة؛ وقد دُعي إليها كلّ أهالي البلدة وعددٌ من الخطباء، أوّلهم كان نصير المرأة "جورج باز"، الذي ألقى خطابًا جامعًا مدافعًا عن حقوقها وواجباتها في المجتمع ونحوه.

    تبعه في الخطابة الأستاذ "ميشال أبو شهلا" الكاتب والصحافيّ المعروف، فالأرشمندريت "بولس الخوري"، ثمّ أخوه الأديب "ابراهيم الخوري"، وكان من بين الحضور الأستاذ الصحافيّ "فؤاد حبيش"، الذي انزوى في مكان من القاعة، يقاطع الخطباء من وقت إلى آخر بكلمات غير نابية، تثير الضحك، دلّت على خفّة روحه، ولكن على قلة احترامه للنظام.

جورج باز

   ترأس الحفلة وكان عرّيفها، ولم يكن بحاجة إلى من يعرّف عليه، فهو نصير المرأة الأوّل، والمتعصّب الثابت لحقوقها، وإليك ملخّص لمضمون خطابه:

   إنّ المرأة نصف الإنسان، نصف المجتمع، لا أكثر ولا أقلّ، وبدونها لا يستقيم العمران البشريّ، هي شريكة الرجل لا عبدته ولا أمَتُه ولا خادمته، وإذا سلّمنا بأنّها خادمة له، فعلينا أن نسلّم بأنّه خادمٌ لها أيضًا، ولكنّها ليست رئيسة له ولا وصيةً عليه. وإذا كنّا منصفين، نحن الرجال، ينبغي علينا أن نحترمها كما نحترم أنفسنا، ونساعدها على القيام بوظائفها التي تتعاطاها والتي خُلقت من أجلها، بدون أن يتوهّم أحد، أنّ لها حقّ السيادة علينا؛ إنّ الرجل شريكها في القيام بالواجب المنزليّ والوطنيّ والإنسانيّ، وهما إذا تضافرا بصفتهما شريكين، أنالا العائلة حظًا كبيرًا من الهناء والسعادة والرقيّ، والمعلوم أنّه إذا ارتقت العائلة ارتقى الوطن، ومن وراء هذا ارتقاء الإنسانيّة جمعاء. وإذا وافقنا على أنّها النصف، والرجل النصف الآخر من الكائن البشريّ المتميّز بالعقل، دون سائر الكائنات الحيّة، فلا يعني أنّها يمكن أن تنافس الرجل في كلّ عملٍ من أعماله؛ إنّ للرجل وظائف ليست من اختصاصها، كما أنّ لها وظائف ليست من اختصاصه، وعليها أن تقوم بكلّ عمل هيّأتها الطبيعة لها، وإذا أتمَّ كلٌّ من الإثنين وظيفته وما هو حق طبيعيّ له، تمّت الفائدة المرغوبة لديهما، وأهمّ وظائف المرأة الوظيفة الطبيعيّة التي لا مناص لها منها، ولا منافس لها فيها، الوظيفة الزوجيّة، وواجب التربية، تربية من تلد وتنجب، لأنّها إذا كانت مربّية صالحة، شبّ ولدها على الصلاح، وتجلبب بالثوب الذي نسجته له أمّه؛ ولكي تستطيع أن تؤدّي واجبها التربويّ والزوجيَّ والبيتيَّ حقّ التأدية، يلزمها مصباح دائم تهتدي به، هو مصباح العلم وسراجه، وهذا السراج حقٌ لها، كما هو حقٌ لشريك حياتها، أوَ هل يجوز أن يسير هو في النور وتتخبّط هي في الظلمة؟ والولد في المنزل إن رأى أمّه متعلّمة مستنيرةً بنبراس المعرفة، رغب في التعلّم، واقتدى بمن تربّيه، وتسهر عليه، وتوجّهه قبل أن تبعث به إلى المدرسة، وهو شبيهٌ بالببغاء، يقلّد من يسمع ويقتدي بمن يعمل، خيرًا كان أم شرًا. والوظيفة التي تقدر على إنجازها في البيت، لا يستطيع أن يقوم بها المعلّم أو الأستاذ في المدرسة، فالأُمُّ هي الأستاذُ الأوّل للولد ومعلّمه الأكبر؛ المعلّم المربّي في دار العلم، يكرّس معظم وقته، إن لم أقل كلّه، في تعليم التلميذ القراءة والكتابة والإملاء والعلوم ويحشو رأسه، غالبًا، بالمعرفة والمعلومات المتعلّقة بالطبيعة والرياضيّات والتاريخ والجغرافيا وسواها من فنون العلم، وهذه كلّها تجعله عالِمًا صغيرًا، ولكن لا تخلق له شخصيّة تتمتَّع بمبادىء قويمة، أمّا الأمُّ المربّية والمعلّمة الأولى، فهي - إذا كانت متعلّمة - تغرس في صدره، منذ نعومة أظافره وصغره، وهوعجينه طريئة، المبادئ الموجَّهة إلى الخير، والمحبّة، والمروءة والوفاء، وغيرها من المناقب التي بدونها لا يكون ابن آدم إنسانًا حقيقيًّا؛ الأمّ هي المدرسة الأولى، فإذا كانت مثقّفةً بالثقافة الوطنيّة والإنسانيّة، خرج ابنها من عالمه الصغير إلى العالم الأوسع، رجلًا ذا قماشةٍ إنسانيّة وطنيّة، محبًّا للمزيد من الاطّلاع والاقتباس؛ وتكون المبادئ التي استوعبها، منذ الصغر، مرافقةً له طوال عمره، لأنّها تأصّلتْ في ذات نفسه، وصارت كأنّها طبع، يصقلها الزمن والتكرار؛ المعلّم، مَهْما جدَّ واجتهد وكابد، لا يقدر على القيام بوظيفة الأم المتعلّمة وقد قال شاعر:

 الأم مدرســةٌ إذا أعــددتها      أعددت شـعبًا طيّــب الأعراق

   والمرأة لَتُخطىءُ حقًا، إذا كسُلَت واتّكلت على الرجل في رفع مستواها وتحصيل حقوقها، التي هُدرت طوال الأزمنة الخوالي، فالمطالبة بحقوقها حقّ طبيعيّ لها وليس هبة من نصفها الآخر، الرجل، وإذا زعم أو ادَّعى هذا الأخير أنّ هذا الحق هبةٌ منه، فيكون قد ظلم. والله، الذي هو الحقّ نفسه، لا يحبّ الظالمين، وادّعاؤه ذاك، يستند على اعتقاده أنّه أقوى منها، تزكيةً منه للقول الدارج، عند عامّة الناس: إنّ الحقّ للقوة، وإنّه قادر، استنادًا إلى هذا المبدأ المُبتذل، أن يسيطر عليها بقوة عضلاته، التي هي هبة الطبيعة، هبة الله، وهل له فضل في هذه السيطرة؟ لا، وموقفه هذا ليس سوى استبداد منه، استبداد قويّ بضعيف، ونكران منه لجميلها، وهي إذا كانت أضعف منه جسديًا، فلأنّها غذّته بلبنها ودمها، مما أورثها الضعف في جسدها، وتضحيتها في سبيله، علّة قوّته، وسبب ضعفها؛ وهل جزاء التضحية يكون باستبداد وظلم المضحّى له؟

   ولكن على المرأة أن تحكّم العقل في هذه المدافعة عن حقوقها، وتتّكل بالدرجة الأولى، على نفسها، وأن تجاهد، بدون هواده أو كلل لبلوغ الهدف، وألّا تحسب جهاد الرجل معها سوى جهاد ثانويّ، لأنّ الرجل إذا حرّرَها وحده، فأيّ فضل يكون لها، وحقّها إذا أمّنه لها غيرها، يظلّ عرضة للضياع "وما حكّ جلدك مثل ظفرك، فتولَّ أنتَ جميع أمرك" والمرء لا يأسف على ضياع ما ورثه، أوما حصّله له غيره، مثلما يأسف على ما ناله بيديه، وحصَّله بعرق جبينه وجهده.

    كما أوردنا، من واجب الرجل تقدير المرأة، نصفه المتمّم له، واحترامها ومساعدتها على إدراك حقوقها، كذلك من واجبها أن تبادله بمثل هذا التقدير والاحترام، وألاّ تحاول الاستعلاء عليه والانتقاص من حقوقه؛ والاثنان عليهما أن يتكاتفا ويسلكا الجدَد والطريق السويّ، إذا حاد عنه، ردعته وردَّته إلى جادَّة الصواب، وإذا حادت عنه هي، ردعها، وأعادها إلى الصراط المستقيم، وهذا الردع المتبادل بينهما ضروريّ، لأنّه يؤدّي إلى النفع العام، وإذا أهملا مثل هذا الانتقاد المخلص، عُدَّ ذلك ضعفًا وتخلّيًا عن واجب، لا بل قلّة إخلاص وخيانة، لأنّه من عرف نقيصةَ في شريكه، وجرَّب سترها، جنى على هذا الشريك وجنى على الإنسانيّة، التي لا تسمو إلّا بتكريم الفضائل وفضح النقائص.

   وارتجل كلّ من السيدين "ميشال أبو شهلا" و "إبراهيم الخوري" خطابًا، نددا فيه بكل مَن يضع شوكًا في طريق تحرير المرأة، وإعطائها الحقوق التي لها، وضرورة مناصرتها لتنال ما تصبو إليه، لأنّ الوطن لا تستقيم شؤونه ويرتقي، إلا برقيّ إنسانه المشكَّل من الزوجين، الرجل والمرأة.

   أمّا الارشمندريت "بولس الخوري"، فزكَّى أقوال الخطباء وتطرَّق إلى موضوع آخر اجتماعيّ، وطنيّ، هو موضوع التعصّب الطائفيّ، الذي سببه الأساسيّ رجال الدين، الذين هاجمهم بعنف، وهو منهم، ولم يستثنِ نفسه، وصفهم بأنّهم أنانيون جشعون، يهمهم اقتناص المال، أكثر مما يهمهم تنوير الرعية وبث روح المحبة، المحبة المسيحيّة، التي لا تفرّق بين الأديان؛ ولو صدق رجال الدين المسيحيون مع أنفسهم ومع ربّهم، لبشّروا بالمحبة والتضحية، كما أحبّ وضحّى المسيح، وعلّموا أبناء وبنات دينهم أن يُحبّوا أبناء سائر الأديان بدون تمييز، لأنّ الله لا تمييز عنده بين أهل الأرض، وأهل الأرض كلّهم أولاده، ومن آثر ولدًا على آخر منا، نحن، أهل الدين ، كان من الظالمين الباغيين الخارجين على طاعة الرب الرحمن الرحيم.    

                                            يوسف س. نويهض

                                                     6 أيلول 1931